تأثير الصراع على وضع الآثار الليبية

(34) سنة لم يترك خلالها “عادل المنوبي” عمله الذي بدأه مرافقا لصديق يعمل كمرمم آثار في مدينة صبراتة الأثرية.. يقول “عادل المنوبي”:

منذ طفولتي كنت و مازلت أشعر أن آثار صبراتة جزء من حياتي ، فهي تعني لي بيتي و أسرتي ، و أفرح كثيرا عندما أدخل هذه المدينة الضاربة في التاريخ منذ آلاف السنين، وعلمت من صديقي “عبدالله” الكثير فقد كان يحدثني عن سكانها وحياتهم وحضارتهم ، كلما رافقته وهو يرمم قطعة أثرية فيها ويشجعني على التعلم لأن هذا سيزيد من تعلقي بصبراتة والفخر والتفاخر بها أينما كنت ، وتعلمت وتعلقت حتى أصبحت كل قطعة منها وكأنها فرد من أسرتي ، والمحافظة عليها وحمايتها صار شيء مفروغ منه، ولأجلها عملت حارس و مرمم آثار ومرشد سياحي وعامل نظافة ، كل هذا في سبيل المحافظة على صبراتة التاريخ و الحضارة التي يوميا يزداد عشقي وتعلقي بها بقدر خوفي عليها.

اليوم تغيرت هذه المدينة ، وآثار الصراعات المسلحة والسياسية وما نتج عنها من تدهور اقتصادي و فساد اداري ومالي ، بات واضحا على مسرح صبراتة الاثري والحمامات وساحة السوق وكل المدينة ، وأكثر ما يؤلمني عندما أجد التشويه أو العبث المتنوع سواء من الزوار أو أبناء المدينة المقيمين، فعبث الزوار يكون إما بالكتابات المشوهة للآثار ككتابة أسمائهم أو كلمات تهكمية على المسرح أو مداخل المنازل مثل (هذا منزل خالد؟؟!!) أو يتركون بقايا طعامهم بين الطرقات ، أما أبناء المدينة فيتعاملون مع الاثار بلامبالاة ، كأن يستخدموا الحجارة موقد نار أو يتركوا أغنامهم ترعى داخل الاثار خاصة في فصل الربيع ، الذي تتجمل فيه صبراتة بجمال الطبيعة وتزداد جمالا وهيبة ، ولكنه جهل الفاعلين بقيمة الاثار تاريخيا وإنسانيا.

القيمة التاريخية و الإنسانية للآثار أوضحها السيد رمضان الشيباني ،موظف في مصلحة الآثار الليبية منذ سنة 1987 ، تحصل على ليسانس دراسات وبحوث تاريخية سنة 1986 من جامعة سبها ، وماجستير جيولوجيا آثرية من جامعة روما سنة 2003 ، وهو رجل في الخمسينيات من العمر، أمازيغي ومن سكان طرابلس ، أهم الاعمال المميزة التي قام بها توثيق وتسجيل مخازن الاثار بالسراي الحمراء بأحدث الطرق العلمية ، وعلى مدى ربع قرن شارك ومازال يشارك في عدة حفريات مع البعثات الدولية ومنها حفريات ايسانتوليا بأيطاليا سنة 2002 إضافة الى العديد من أعمال المسح الاثري بالصحراء الليبية، ونقل وتخبئة كنوز متحف السراي الحمراء الى أماكن أمنة بعد 2011 وترميم سراديبها سنة 2015 وترأس لجنة نقل مقتنيات متحف بنغازي الى توكرة أثناء هدمه سنة 2007 الى جانب حضوره ومشاركته في المؤتمرات والندوات الدولية، و ورش العمل حول دعم الاتجار بالاثار في صبراته وبنغازي وشحات و حماية الموروث الثقافي الليبي و تنمية الموارد السياحية بجبل نفوسة و إعداد قاعدة البيانات الخاصة بتوثيق المقتنيات الاثرية بمخازن ومتاحف المدن الليبية الثلاث ( تريبوليتانيا)

وإلى جانب عمله الاكاديمي كأستاذ متعاون مع الجامعات الليبية ، فهو نقيب الاثريين وعضو مؤسس لجمعية ليبيا لاستكشاف المخابئ والكهوف في طرابلس وعضو مؤسس لجمعية الزمن الجيولوجي الرابع للباحثين المغاربة
هذه المسيرة التي كشفت عن حرص وشغف الخبير رمضان الشيباني بالاثار والموروث الثقافي والتاريخي ، لفتت انتباه الاعلام إليه ، و استضافته عدة وسائل اعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة ، وأوضح بشكل جلي خطورة ما تتعرض له الاثار الليبية بكل اشكالها و أنواعها من عبث وتشويه و نهب.

وعندما طلبنا لقائه وافق بعد ان علم الهدف و الأسباب ، واقترح ان يكون الزمان مساء والمكان تحت قوس “ماركوس” أحد معالم المدينة القديمة وسط العاصمة طرابلس والذي يشهد عملية ترميم لبعض اجزائه بإشراف السيد “رمضان” ، و في الزمان والمكان الذي حددهما التقينا و قال “جميعنا تابعنا وشاهدنا ما تعرضت ومازالت تتعرض له الاثارالليبية من سرقة ونهب وتشويه مؤلم لمن لديه غيرة و انتماء للوطن، أما الاخرون، فهؤلاء لا انتماء لديهم ، لانهم لصوص التاريخ ، ولا يقل شأنهم عن شأن دواعش المال العام بل يفوقهم خطرا ، فالاموال قد تعوض يوما أما الاثار فما يضيع منها لا يعوض ولا يتجدد ”

و وصف الوضع الحالي للآثار الليبية بالمحرج و المخجل للغاية ومن يقل ان الوضع مطمئن فهو غير صادق ، فالنبش والحفر عن الاثار مستمرعلى مدار الساعة في جبل نفوسة وصبراتة وشحات و اكاكوس ، ناهيك عن الاثار الليبية التي تباع علنا في كل الاسواق العالمية ، كذلك نشاهد على صفحات خاصة بأشخاص عليها أسمائهم و صورهم ، قطع اثرية ليبية من عملة وفخار وتماثيل ، يعرضونها لغرض بيعها ، وهنا يأتي دور السلطات الليبية القضائية والأمنية التي للأسف الشديد لديها علم بكل ما يحدث ، و وجهنا نداءات مباشرة للنائب العام والشرطة السياحية وكل الجهات المكلفة بحماية الاثار ولكن لا حياة لمن تنادي.

وبتنهيدة و وجع قال السيد رمضان “الوضع الحالي لآثارنا العظيمة يبكي الحجر ، والقانون الليبي ضعيف وهزيل فالعقوبات الموجودة بسيطة جدا و لاتتوافق مع حجم الجرائم المرتكبة في حق الاثار، ولايوجد أي نص يجرم مرتكبيها سواء بالعبث أو الاتجار ، على سبيل المثال قبل 2011 ، شخص اعدم وشوه 120 نقش و رسومات في جبال اكاكوس في الصحراء الليبية عمرها أكثر من 8000 سنة ، بحكم هذا القانون تمت معاقبته بالسجن 4 اشهر وغرامة مالية بقيمة 2000 دينار فقط ،واذا نظرنا للعالم نجد كثير من الدول ، تصل العقوبة فيها الى الخيانة العظمى والسجن المؤبد الذي لايقل عن 25 سنة لكل من يحدث عبث في الاثار، رغم أن زملائنا في المنطقة الشرقية اعدوا مسودة قانون جديدة تضمنت عقوبات شديدة وعرضوها على البرلمان واعتقد تمت الموافقة عليها”

وهنا سألناه عن موقف اليونسكو؟ فأجاب باستفهام فيه معنى الاستغراب والتحسر قائلا “وماذا عساه تفعل اليونسكو؟ هي لاعلاقة لها بالشأن الداخلي بشكل مباشر كل ما تستطيع تقديمه يتمثل في الدعم بخبراء ودورات تدريبية للمختصين في الاثار، ورغم ذلك استطاعت الضغط على السلطات الليبية لاحترام الموروث الثقافي والعمل على ردع المخالفين ، عندما أعلنت وضعها لمواقع التراث العالمي الليبية في قائمة الخطر، أما حماية الاثار داخل الدولة بشكل مباشر فهذا شأن داخلي وليبيا موقعة على المواثيق الدولية بتبني حماية الموروث الثقافي فيها ، اذا علينا ان نعتمد على انفسنا لحماية موروثنا و اثارنا التي تنفرد بلادنا بوجودها لانها تدل على حضارات أقيمت على أراضيها في الساحل والصحراء والجبل ، وكما قال احد خبراء الاثار البريطانيين ، ليبيا كجلد النمر المنقط ، أينما تضع قدمك تجد أثارا تاريخية تختلف عن التي قبلها والتي بعدها ، وهذه الشهادة تكفي لتحفيزنا كمواطنين للفخر موروثنا والحفاظ عليه وتكفي لدفع الجهات الرقابية والقضائية لتسليط الضوء على الجهات المسؤولة عن الاثار، ومحاسبتها شأنها شأن بقية المؤسسات التي لحقها الفساد في المال العام فالاثار أيضا مال عام” .

الحديث عن اليونسكو جعلنا نتواصل عبر(الواتس آب) مع الدكتور “حافظ الولدة” سفير ليبيا الدائم لدى اليونسكو، و هو متخصص وخبير في الاثار الرومانية والرقمنة، ومستشار مصلحة الآثار الليبية وله عدة دراسات وابحاث في هذا الجانب ، وبدوره اعتبر ما يحدث للاثار الليبية ما هو الّا انعكاس للصراع والانقسام السياسي والذي جعل مصلحة الاثار الليبية تنقسم إداريا إلى مصلحتين واحدة في الشرق والأخرى في الغرب، مما أثر على آداء وفعالية المصلحة بشكل واضح، وخصوصا في استخدام الخبرات في المواقع التي تحتاجها وإعداد تقارير مواقع التراث العالمي ومحاربة النبش العشوائي، والاتجار غير المشروع في القطع الاثرية النادرة “.

ولم يختلف وصف الدكتور الولدة لموقف الجهات الأمنية المكلفة بحماية الاثار والعقوبات البسيطة في القانون الليبي ، عن وصف الأستاذ الشيباني ، والمؤسف أكثر حسب قوله أنه عندما اردوا اخذ نسخ من محاضر تحقيق أو بلاغات من مراكز الشرطة الليبية لاستعمالها قانونياً أمام القضاء الأوروبي ، كدليل على سرقة القطع الأثرية من ليبيا و ادخالها بالعشرات الى إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، وجدوا صعوبة و عرقلة في الحصول عليها ، ولكن الحرص على استرجاع التاريخ وهو حق ليبيا ، واصلوا العمل مع لجنة استرجاع المسروقات بحكومة الوفاق بطرابلس ، وبناء على اتفاقيات متبادلة مع هذه الدول نجحوا في رد بعض القطع الأثرية المنهوبة من ليبيا .

وبكل أسف قال ” النهب سيستمرمع استمرار العنف والاضطرابات الأمنية والتجاذبات السياسية التي تعيشها ليبيا ، وسيبقى وضع تراثنا و موروثنا الثقافي في خطر، ما لم نحرص عليه بأنفسنا ، بل ويتم ادخال هذا الموروث العظيم في المناهج المدرسية ، في كل المراحل التعليمية ،لتعلم الأجيال القادمة أنها مكوناً أساسياً من مكونات الهوية الليبية ويدرك الجميع أهميتها فيساهموا في المحافظة عليها”

تقرير “تأثير الصراع على الآثار الليبية”
ضمن سلسلة تقارير بعنوان “تقارير من أجل التغيير”

“تم انتاج هذا التقرير بدعم من الإتحاد الأوروبي ضمن مشروع ” أصوات من أجل التغير” بالشراكة مع معهد صحافة الحرب و السلام و محتوياته هي مسؤولية شبكة اصوات ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر الإتحاد الأوروبي”

#شبكة_أصوات_للإعلام
#صحيفة_أصوات
www.aswat.ly

إعداد/ ربيعة حباس

اترك ردا

لن يتم عرض بريدك الالكتروني.