الغاز: كمورد للطاقة، أنواعه، طرق تسويقه، أوضاعه الفنية والاقتصادية في ليبيا

الجزء الثاني

الجزء الثاني

الدكتور: محمد أحمد

كنا في إدراج سابق (الجزء الأول: الغاز كمورد للطاقة، أنواعه، طرق تسويقه، أوضاعه الفنية والاقتصادية في ليبيا ) قد تناولنا التفريق بين أنواع الغاز و قلنا أن هناك نوعين أساسين من الغاز الأول هو الغاز الطبيعي و الثاني هو غاز البترول المسال، وقد تم تغطية في الجزء الأول أوضاع الغاز الطبيعي ، والذي خلصنا فيه إلي أن الغاز الطبيعي لا يتم تسويقه إلي المستهلك النهائي سواء كان فردا أم مصنعا ألا عن طريق التوصيل بالأنابيب وليس هناك أمكانية لتعبئته مثلا في أسطوانة يأخذها المستهلك معه إلي البيت، والتي هي معبأة بما يسمى بغاز البترول المسال الذي سنتناول تغطيته في هذا الإدراج.

قبل الولوج في مناقشة طبيعة غاز البترول المسال نعرج قبلا لنقارن للمرة الأخيرة بين الغاز الطبيعي و غاز البترول المسال. فالغاز الطبيعي والذي يوجد في الطبيعة على هيئة غاز هيروكربوني كما أشرنا و يتبين في الجدول المرفق هو يتكون أساسا من غاز ميثان و أحيانا إيثان هو مركب كيماوي محتواه الحراري يقل بكثير عن محتوى غاز البترول المسال والذي لا يمكن تواجده في الطبيعة مستقلا، لا حظوا الفرق في أهم عاملين وهما درجة الغليان و حجم الغاز فمثلا لا يمكن حفظ الغاز الطبيعي في صورة سائلة ألا بتجميده تحت درجة حرارة -161.5 درجة مئوية. هذا يعني أن متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال سيكون وزنه 450 كج كما هو موضح في الرسم المقارن بين حجم جسم الانسان و حجم المتر المكعب. فضلا عن عدم وجود معدن يتحمل ضغط كهذا لا أظن أن ظهري سيحتمل أن أرفع هذا الوزن ….

وكما أوضحنا في الجزء الأول أن مشكلة أستغلال الغاز الطبيعي تكمن في أرتفاع تكاليف الاستثمار في النقل و التوزيع مما يحتاج إلي سوق كبيرة قادرة على تبرير تكلفة الاستثمار، وهو ما لا يتوفر ألا في الأسواق الخارجية التي تعطي أسعارا عالمية تصل اليوم تقريبا إلي 6 دولار لمليون وحدة الحرارة البريطانية مقابل أقل من نصف دولار للسوق المحلي. وكان أستنتاجنا أن عملية استغلال الغاز الطبيعي قد تصبح ممكنة فقط أما لتوظيفها في أنشطة الحقن لرفع أنتاج النفط الخام وهو ما يستعمل بصورة واسعة في ليبيا أو في تلك المدن التي تقع على طريق شبكة أنابيب تصدير الغاز الطبيعي.

ننتقل الآن لمناقشة غاز البترول المسال.

هذه النوعية من الغاز لا توجد منفردة في الطبيعة و لا بد من إجراء عمليات فصل لها سواء من ما يسمى المكثفات و هي السوائل المصاحبة لإنتاج الغاز الطبيعي أو من النفط الخام. وتعتبر سوائل الغاز الطبيعي بالطبع أغنى مصادر غاز البترول المسال. وغاز البترول المسال كما هو موضح في الهيكل التوضيحي يتكون من غازي البروبان الذي يحتوي على ثلاثة ذرات كربون و ثمانية هيدروجين و غاز البيوتان الذي يحتوي أربعة ذرات كربون و 10 ذرات هيدروجين. بمجرد فصل غاز البترول المسال لا يمكن الاحتفاظ به ألا سائلا في خزانات تبريدية كبيرة تحت درجة حرارة أقل من -42 درجة مئوية كما أوضحنا في جدول المقارنة المرفق.

في حالة غاز البترول المسال يمكن تقنيا وضعه في أسطوانات تخزين أصغر وفقا لكثافته النوعية التي هي أثقل من الهواء الجوي كما أن تسييله لن ينتج سائلا ثقيلا كما هو الحال بالنسبة للغاز الطبيعي كما هو موضح في رسم أحجام و أوزان الاسطوانات المرفق.

لذا فأن غاز البترول المسال ينتج أما في مصافي بترولية كمصفاة الزاوية أو مصفاة رأس لانوف في ليبيا، أو ينتج في مصانع فصل سوائل الغاز كما في مصانع فصل المكثفات في مرسى البريقة و الزويتينة و مليثة. من ناحية اقتصادية و بحساب سعر النفط العالمي الحالي فأن هذه المنتجات تباع للمستهلك النهائي كخسارة مقارنة لسعر البرميل ألا أن هذا يتم تعويضه من أرباح بيع الديزل و بنزين السيارات. لذا فأن السعر العالمي الذي يقاس به الدعم قد يكون منحرفا بعض الشئ في الدول التي لا تنتج كميات كبيرة من الديزل أو بنزين السيارات. على كل حال فأن إذا ما أخذنا سعر غاز البترول المسال العالمي في الاعتبار فأن أسطوانة الغاز الليبية كبيرة الحجم ينبغي أن تباع تقريبا بين 12-14 دينار ليبي وذلك بسعر الصرف الرسمي الحالي وهو 1.4 دينار للدولار. هذا بأستثناء تكلفة الانبوبة نفسها التي تصل إلي 80 دينار ليبي للأسطوانة والتي يتم بيعها للمستهلك بـ 50 دينار من قنوات التوزيع الرسمية.

وفي الحديث عن غاز البترول المسال يلزمنا الحديث عن نظرية سلم الطاقة في الاحتياجات المنزلية وهي موضحة في الرسم المرفق. تفترض هذه النظرية أن سلم الطاقة محكوم بمحورين الدخل الفردي و الارتقاء في استخدام مصادر أكثر أمنا. يبدأ الأستخدام البدائي للفرد منخفض الدخل بحرق روث البقر (الهند) أو الأخشاب للحصول على الطاقة للطهي أو حتى التدفئة، طبعا لا حاجة لذكر المساوئ هنا خصوصا على ربات البيوت. يرتقي الأنسان في أنظمة أقل تلوثيا بتحركه نحو الفحم الذي يعتبر أخر مادة في سلسلة الوقود الصلب قبل الأنتقال إلي الكيروسين أو ما يعرف بالكاز عندنا والذي لا يزال مستعملا في العديد من المجتمعات النامية لأنه كان اقل تكلفة من غاز البترول المسال نظريا، أرتفاع الطلب على الكيروسين كوقود للطائرات النفاثة بدأ يغير من هذا الوضع تدريجيا.

تتحرك المجتمعات لأعلى بغرض الوصول إلي أكثر المصادر أمنا و راحه وهي هنا أما الكهرباء أو الغاز الطبيعي ألا أنها لا بد أن تمر بمرحلة غاز البترول المسال، و في الحقيقة فأن غاز البترول المسال يشكل بديلا هاما لتلك المجتمعات المكانية التي تكون بعيدة عن خطوط نقل الغاز الطبيعي. التحول الكامل إلي الكهرباء سواء في التدفئة أم الطهي لا زال يواجه عائقا ماديا من ناحية التكلفة.

في ليبيا نحن لا نزال في مرحلة غاز البترول المسال للعديد من الاسباب. الرجوع خطوة في السلم للوراء لا أظنه يعد مقبولا بالرغم من أن تكلفته ستكون أقل من ناحية الاستثمارات في عمليات التوزيع و التسويق. لقد قامت الدولة كما في دول نامية كثيرة بدعم الانتقال إلي مرحلة أعلى من السلم بنجاح و أصبح استهلاك غاز البترول المسال اساس الاستهلاك في القطاع المنزلي.

المشكلة هنا أن تزايد الاستهلاك لم يقابل بتزايد للاستثمار رغم وجود ما يكفي من الانتاج المحلي ليغطي حجم الاستهلاك الحالي كما هو مبين في الرسم.

المشكلة فيما أرى تنحصر في سببين: السعر المحلي التنافسي بين الديزل و غاز البترول المسال و كذلك سوء طرق التوزيع و المناولة لأسطوانات الغاز.

لا أرى هنا بالرغم من الدعم أن هناك حافز لتهريب المادة بسبب تكاليف النقل المرتفعة وخطورة نقلها في دروب التهريب. لنرجع لأسباب أزمة توزيع الغاز. كما قلت أعلاه فأن مقارنة السعر المحلي للغاز و سعر الديزل من ناحية المكون الحراري للمادتين يعطي افضلية كبيرة لسعر غاز البترول المسال هذا ما جعل الكثير من أصحاب الصناعات المتوسطة و الصغرى يفضلون أستخدام أسطوانات الغاز المخصصة للأستعمال المنزلي على استخدام الديزل كمصدر للطاقة، هذا أدى إلي اختفاء كميات كبيرة من الاسطوانات قبل وصولها إلي مستخدمها المقصود و هو ربة البيت.

لحل هذه المشكلة لا مناص من تغيير شيئين أساسين الأول هو سعر الأسطوانة وجعلها تقترب من مستوى تسعير الديزل و الثاني هو تخصيص أسطوانات اكبر حجما للاغراض الصناعية و باسعار تنافسية. المحور الثاني هو سوء مناولة الاسطوانات والذي يسبب في تخريد الكثير منها قبل نهاية عمرها الافتراضي و التكلفة الاضافية التي يسببها ذلك خصوصا أن الدولة تدعم سعر الاسطوانة الجديد. طبعا الحل واضح هنا و لكنه يحتاج إلي أستثمار و الاستثمار يحتاج إلي أما مزيد من الدعم أو رفع السعر (لا أقول هنا بإلغاء الدعم) لدرجة تبرر الاقدام على الاستثمار ومن ثم يحتاج إلي إدارة رشيدة للدفع بأتجاه أنشاء سوق تنافسي في أجزاء منه يتطور ذاتيا.

اترك ردا

لن يتم عرض بريدك الالكتروني.