بعد تنحي مبارك.. قبل 17 فبراير
بقلم رأفت بالخير.
قبل سبع سنوات كنت ذاهبا إلى مطار طرابلس العالمي لأستقبل قريبي العائد من مصر، بعد يومين من إعلان الرئيس المصري محمد حسني مبارك التنحي عن الحكم، كانت الأمطار تتساقط بغزارة، الساعة كانت تقترب من الثامنة مساء،الأحداث المتسارعة في مصر كانت تتصدر الأخبار، فالعالم كله يريد أن يعرف كيف ستسير الأوضاع في أكبر الدول العربية سكانا، الأخبار من تونس بدأت، مع تسارع الأخبار من مصر، والأكيد أن ليبيا ليست ببعيد عن كل ما يحدث في جارتيها.
دخلت إلى مبنى مطار طرابلس، الإجراءات الأمنية كانت عادية، ليس هناك ما يثير الريبة، النظام الليبي حاول أن لا يكون هناك تأثير للأحداث الجارية في دول الجوار على الحياة في ليبيا، لكن الأحداث كانت تؤثر في ليبيا والليبيين رغما عنهم، صورة الزعيم الذي لا يقهر تحطمت تحت الأصوات الصادحة بعبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”، النظام الليبي حاول أن يظهر الدولة في ليبيا على أنها مهتمة بالمواطنين الليبيين في مصر، فسير جسرا جويا لإعادة من يرغب في العودة إلى ليبيا من الليبيين.
لم تكن هذه المرة الأولى التي أستقبل فيها قريبي وهو عائد من مصر، فهو بدأ دراسته هناك قبل سنوات، ملتحقا بإحدى الجامعات المصرية، كنت أنتظره كعادتي بالقرب من بوابة الوصول، أتحسس علبة سجائري، والقداحة، أقول لنفسي كيف سيكون شكله وهو عائد من بلاد شهدت للتو ثورة عارمة؟ فلم يكن أحد منا يحلم بأن يحدث أمر كهذا في دول مجاورة لنا، ونكون بذلك محاصرين بالثورة التي طالما تحدث عنها القذاقي ولم نرها.
ها هو يتقدم بين المسافرين، يحمل حقيبة واحدة معه، أشعث الشعر، لحيته أطول من المعتاد، فهو يكره دائما أن يحلقها إلى الصفر، عيناه تبتسمان، وفاه فيه أمر غريب، فرح ليس له نظير، لم أعرف إن كان هذا فرح العودة إلى الوطن أم أمر آخر، ذهبت إليه، وعند الاقتراب، رائحة غريبة اقتحمت رئتاي، نقلت لي ذلك الفرح الذي يعيشه قريبي، رائحة الحرية، هكذا قلت له، أليس كذلك؟ قال لي “كم تمنيت أن تكون هناك يا رأفت؟ لا يمكن أن أصف لك، إنها لحظة تاريخية غير مسبوقة في تاريخنا”، هذه الكلمات كلها كانت متسارعة، وفجأة وجدت نفسي أمام سيارتي، لا أدري هل كانت المسافة من مبنى المطار إلى محطة وقوف السيارات قريبة إلى هذه الدرجة، أم أن الحديث الشيق عن الثورة هو الذي قصر المسافة.
لازالت الأمطار تتساقط، أدركت هذا عندما ركبت السيارة، وأنا في ذات الوقت أسأل قريبي بلا توقف عن الأوضاع في مصر، إحساس الناس على الأرض، ميدان التحرير وحواديثه، ما هي الحقيقة على الأرض؟
نتوجه الأن إلى منزل قريبي، الطريق ليس ممتلئا كعادته في هذا الوقت من المساء الشتوي الطرابلسي، دار الحديث عن إمكانية حدوث الثورة في ليبيا، قريبي أكد لي بأنه يمكن أن تحدث الثورة، ولكن عقلية الممسكين بزمام الأمور في ليبيا تختلف عن عقلية من كان يحكم مصر، حديثنا كان عن عدد من القبائل التي ستقف مع النظام، وهذا ما سيحدث بعد ذلك، قلت له إن الروح التي جاء بها من مصر جعلتني أتأكد بأن شيئا ما سيحدث في ليبيا، ولكن كنت متأكدا كما هو كان متأكدا بأن حمام من الدم سيحدث إذا وصلت موجة الثورات إلى ليبيا.
كنا واثقين بأن الكماشة أطبقت على ليبيا، وأن التغيير قادم لا محالة، وعلى النظام أن يكون ذكيا ليجنب البلاد والعباد مأساة الحرب، لكننا تجاهلنا عن عمد في تقييمنا للموقف طبيعة ليبيا والليبيين، خوفا من النتيجة الحتمية التي وصلنا إليها اليوم، ليبيا لم تؤسس يوما على أساس بناء دولة المواطنة لكل الليبيين، ليبيا تأسست على أساس المحاصصة الجهوية والقبلية، ولم يأت نظام بعد يسعى لأن تكون الدولة هي العنصر الأساسي الذي يسعى الجميع لبنائه وتنميته وحماية مصالحه.